دراسات إسلامية

 

قصص القرآن الكريم ومعارفها العلمية والتربوية

 

بقلم : سعادة الأستاذ الدكتور بدرالدين الحافظ القاسمي

دهلي الجديدة

 

 


     إذا قرأنا قصص القرآن الكريم وأمعنّا النظر فيها، وجدنا أن غرض نزولها الرئيس في ضوء ما حدث بين مختلف الأنبياء وأممهم من أحداث مرضية أو غير مرضية تثبيت عقيدة التوحيد وتطهير الأفكار من الشرك والكفر . مع ذلك إننا إذا نظرنا إلى قصة خاصة من قصص الأنبياء اهتدينا بها، واسترشدناها استرشادًا لاتعود بعده قصة فحسب؛ بل تصبح مَعْلمًا من معالم الهدية والنور لحياتنا الحاضرة .

     أذكر أول الأمر الاثنين من كبار الرسل ، وهما إبراهيم الخليل عليه السلام وموسى الكليم عليه السلام . وتتساوى حياتهما النزيهة كنبي و إن أحدهما خليل الله والآخر كليم الله ، وواجه كل منهما الحكام الجائرين ، إذ قابل إبراهيم عليه السلام نمرود، فقابل موسى عليه السلام فرعون، وتتماثل أمتهما في الجهل والسفاهة، ويشعر كل منهما بضرورة إصلاحها وإنقاذها من العشرة الرذيلة غير أن منهج أحدهما يختلف عن الآخر.

     فيرغب إبراهيم عليه السلام في هداية الأمة عن طريق استدلال عقلي، بينما يريد موسى عليه السلام أن يقوم بأداء هذه المسؤولية من خلال قوته أيضًا بالإضافة إلى معجزاته الخاصة، كما تعمهما أفضال الله عز وجل وبلاياه أيضًا .

     فنظرًا إلى حياتهما يمكننا أن نبحث عن البوادر الواضحة لحلول المشاكل التي يتعرض لها مجتمعنا. مثلاً:

(1) الحاجة إلى قيادة مخلصة قوية .

(2) أهمية مؤسسة إسلامية عالمية تبتعد عن جميع الخلافات العنصرية واللغوية والإقليمية والطائفية.

(3) ضوابط الزعامة الواضحة المماثلة للجميع .

(4) مكافحة القوى الباطلة التي تسعى إلى إنهاء هوية دينية .

(5) مساعدة المسلمين المظلومين ، ومحاولة رفع مستوى حياتهم .

(6) الاستدلال العقلي والتفاهم ، والمجاملة في تبليغ الحق ، والابتعاد عن النقاش والصراع .

(7) الأضرار من الأخطاء الجماعية والمطالبات غير المنسجمة والأهواء والمعاصي .

(8) أهمية الاتحاد المتبادل .

     أما التطور الصناعي الذي أصبح قوة هائلة للعصر الحاضر، والذي تعتمد عليه الأمم المتقدمة في العالم ، فيمكن في ذلك الاستلهام من قصة داؤد عليه السلام من بين قصص القرآن الكريم كما قال سبحانه وتعالى :

     «وَأَلنَّا لَهُ الْحَدِيْدَ أَنِ اعْمَلْ سـٰـبِغـٰـتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوْا صَالِحًا ، إِنّي بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ». (سبأ / 10-11) .

     وعُلّم ذلك لأن داؤد عليه السلام كان يصنع دروعًا ثقيلة وفق التقنية القديمة ويكسب بذلك رزقًا حلالاً ، فألهمه الله تعالى أن يختار التكنولوجيا الحديثة ليتسنى اختيار طرق جديدة في مجال الصنعة ، حسب ما تتطلب الضرورة في كل عصر، وكيلا يتخلف الــذين يؤمنـــون بالقــرآن الكريم عن الأمم الأخرى في العالم .

     وكان سيدنا إدريس عليه السلام أول نبي زوّده الله تعالى بعلم الأفلاك وأكمل تعليمه له ، وذلك إشارة إلى دراسة العلوم الحديثة وتدريسها .

     علاوة على ذلك إن إدريس عليه السلام حينما أقام بالقرب من نهر «النيل» في مصر، وبدأ التبليغ والتعليم في قبائل شتى ، تكلم بلغة كل قبيلة وبلهجتها ؛ وذلك لأنه كان يعرف اثنتين وسبعين لغة. ويفيد ذلك بأنّ تعلم اللغة الأجنبية عند الضرورة من سنن النبي الجليل :

     «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيْسَ إِنَّه كَانَ صِدِّيْقًا نَبِيًّا» (مريم/56) .

     ومن بين قصص القرآن الكريم قصة إسماعيل عليه السلام بكاملها، وهي تتمثل في رسول الله الكريم والابن المطيع حيث رضي بتضحية نفسه في سبيل الله عز وجل عندما أشار والده إلى ذلك كما قال سبحانه وتعالى : يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِيْ إنْ شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِيْنَ (الصّـٰـفـٰـت /102) .

     أما شخصية سليمان عليه السلام فقد ظهرت من حيث أنه حاكم مدبر ، كما أنه كان نبيًا في نفس الوقت ، وعالج شؤون سلطنته بحسن التدبر، ورعى في مملكته كل من كان فيه الروح، وقام بتنظيم أمورها بانتظام بارع، فعندما اطّلع على ملكة سبا ، اهتم بلقائها بالحكمة والفِطنة .

     ومن جانب آخر فإن التحقيقات قد أثبتت أن الرسالة التي أرسلها سليمان عليه السلام بواسطة الهدهد إلى ملِكة سبا كانت أول رسالة مكتوبة في العالم ، كما كان الهدهد أول سفير في إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين .

ملكة سبا حاكمةٌ حليمة تحب الجمهورية وتعرف نفسية الناس:

     بغضِ النظر عن القصة كلها عندما نركِّز اهتمامنا على أن السفير «الهدهد» لما وصل إلى ملكة سبا برسالة سليمان عليه السلام ، فكيف أبرزت فراستها وحلمها وقتذاك : جمعت أصحابها بطريقة جمهورية وقالت : يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّيْ أُلْقِيَ إِلىَّ كِتَابٌ كَرِيْمٌ ، إِنَّه مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّه بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـٰـنِ الرَّحِيْمِ، أَنْ لاَ تَعْلوُا عَلَيَّ وَأْتُوْنِيْ مُسْلِمِيْنَ ، قَالَتْ يـٰـأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُوْنِيْ فِيْ أَمْرِيْ مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُوْنَ» (النمل/31-32).

     تحتوي كلمات الملكة الشاملة على ثلاثة أجزاء.

     أولا : إفادة الأصحاب بالرسالة .

     ثانيا : مدلول الرسالة .

     ثالثا : طلب آرائهم على ذلك .

     هذه الأجزاء الثلاثة تعكس بوضوح كفاءتها ونباهتها وحِسّها الجمهوري ، وعندما أعرب موافقوها عن قوتهم واعتقدت الملكة أن الحرب إذا شُنت فإنهم لاينسحبون منها ، وخُيّل إليها أن القطع في الأمر مسؤوليتي الهامة كما أنه اختبارُ فكرتي وعقليتي ... وفي الواقع تدرس الأمرَ امرأةٌ تختفي في داخل الملكة وهي تحب الرحم والسهولة، وترغب في معالجة المشكلة بدون صراع ومعركة؛ ولذا إنها تقول وهي تنصح القوم بذكاء : «إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوْهَا وَجَعَلُوْا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُوْنَ وَإِنِّيْ مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنـٰـظِرَةٌ بِمَ يَرْجـِعُ الْمُرْسَلُوْنَ» (النمل/34-35) .

     ويدل استخدام كلمة «مرسلون» بصيغة الجمع على أن الملكة ربما ألمّت بأحوال الملوك القدامي وبأحداث الحروب .

والدة سيدنا موسى عليه السلام في صورة أم مدبرة :

     ربّت أم موسى طفلها – وهي تحميه من أنظار الأعداء – إلى ثلاثة شهور بعد ولادته ؛ ولكن صيانته من الجواسيس صعبت عليها فوضعته ذات يوم في الصندوق وألقته في نهر «النيل»، ولطمأنينة خاطرها طلبت من أخته الكبيرة أن تراقب الصندوق، ولما حُمل هذا في قصر فرعون أقامت علاقة مع خادمات القصر، ثم جاء موسى إلى أمه ليتربى في حضنها وهي ترضعه بهذا التدبير الحسن.

العواطف البشرية في الحياة النبوية :

     إن أبرز العواطف التي كانت موضوعًا لبعض القصص أو لجانب من جوانبها عاطفة ميل الأنثى إلى الذكر ، وتتجلى هذه العاطفة في صورة نظيفة في قصة موسى : «لَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُوْنَ وَوَجَدَ مِنْ دُوْنِهِمِ امْرَأَتَيْنِ تَذُوْدَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِيْ حَتّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُوْنَا شَيْخٌ كَبِيْرٌ ، فَسَقَىٰ لَهُمَا ثـُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّيْ لِمَا أَنْزَلْتَ إِلىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيْرٌ» (القصص / 23-24) .

     تظهر هنا عزة نفس موسى عليه السلام وتوكلُه على الله تعالى ؛ لأنه لو أراد عوض خدمته وقد كان مسافرًا غريبًا وربما كان باحثًا عن مسكن، لاستطاع أن يذكره للبنتين إلا أنه لم يحبَّ أن يطلب أجر خدمة الخلق .

     ثم أخبرت البنتان أباهما عن الواقع ، فجاءت إحداهما إلى مسافر غريب على اقتضاء من أبيها ... ومن الأمور البديهية أن يوجد في الفتاة هوى النفسِ، وذلك ضروري أيضًا في مثل عمرها إلا أنها بقيت على كرامتها الطبيعية ، وأتت إلى موسى وحالُها : فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ، وتطلب أباها أن يعيّنه خادمًا في البيت بحيث يتم الإشارة إلى محاسن لازمة تمس الحاجة إليها في البحث عن زوج صالح فتقول : «يَا أَبَتِ اسْتَأْجـِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِيْنُ» .

     وكانت عاقبة هذه الميل العفيف الزواج. وهذا نموذج نُبل الجانبين وأسوة حسنة للعالم .

     وتتجلى هذه العاطفة في صورة غير نظيفة في حب امرأة العزيز فتاها يوسف ومراوَديِها إيّاه وبراءة نفس يوسف، وما تبع ذلك من كيدها وكيد نسوة المدينة .

     ومن هذه العواطف الحسد الذي ظهر في قصة ابني آدم، فكانت عاقبتها قتل الأخ لأخيه وأصبح من الخاسرين .

     غير أن هذا الحادث المؤلم نتج عن صدور الحكم بالحماية الدائمة للمجتمع كله فقال عز وجل: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بَغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِيْ الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا» (المائدة / 32)

ضرورة العناية بالعواطف الأنثوية :

     من المعروف أن النبي زوّج زيدًا زينب ؛ ولكن هذا الزواج لم ينجح ؛ لأن زينب كانت تنتمي إلى الأسرة الهاشمية النبيلة ، وكان زيد ابن عبد ؛ ولذا لاتحب أن تبقى زوجةً له وظلّت الشكاوٰى تتجدد ، وتسبب ذلك في كسره خاطر النبي أيضًا ، وبالتالي أُضطُر زيد إلى الطلاق فتزوجها النبي بنفسه وهو يعتني بعاطفة امرأة ليسليها بذلك .

     هذا وهناك كثير من قصص القرآن الكريم التي يمكن أخذ النكات منها علميًّا و تربويًّا .

 

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1426هـ = يوليو – سبتمبر 2005م ، العـدد : 7–6 ، السنـة : 29.